د.عبد الرحمن آلوجي : السياسة و الحراك السياسي بين الاحترافية و المبدئية ؟! |
السياسة مواجهة الحياة في أخص خصائصها , و أكثرها قربا إلى هموم الإنسان و طموحاته و أهدافه الكبرى ... و الحراك السياسي ترجمة عملية لهذه المواجهة , سواء كان ذلك في طابع فردي يتمثل في شخصية تجسد أهدافها حية في تصرفاته , أم كان في طابع جماعي متمثلا في هيئة أو طرف أو كيان سيسي, قائم يتجسد في دولة تختلف في ممارساتها , و شكل حكمها و طريقة إدارتها , و صيغ مؤسساتها ..
هذا الحراك الذي يحدد أفق العملية السياسية و مدى ارتقائها أو هبوطها , ووضع القادة و الأفراد و الهيئات و مدى اقترابهم من أهدافهم ومثلهم التي آمنوا بها , ونذروا حياتهم لها قديما و حديثا, في ممارسة حركية حية تستلزم متابعة و مراقبة و تقويما و نقدا , في الأداء و الترجمة الفعلية لواقع نظري يجسد الفكرة , و يترجمها في الحراك المتجلى في عمل متوثب و فاعل ..
والسياسة و حراكها من ألزم ضرورات الحياة ومن أكبر مهام الإنسان , كضرورة حياتية تستوجب الارتقاء بالمجتمع والتحرك المنتج في محيطه , بما لها من ارتباط مباشر و غير مباشر بالاقتصاد و الاجتماع و الفلسفة و الفكر , و القيم الأخلاقية و الروحية , والحياة العريضة للناس , لما تحمل من قوة دفع و إنشاء , - في حركها الصحيح والمعافى من دنس الارتزالق والتزلف والانتهازية , فهي قد تردي و تدمر إذا كانت الصيغ المتبناة قمعا و قهرا و إذلالا, وتشهيرا يعتمد الوصولية والتسلق والارتماء في الذاتية وأوضارها المنكرة والبائسة , و قد تعلي و تنشئ و تدفع إلى الأرقى و الأنبل إذا تسلحت بالقيم الفاضلة و المثل العليا , و هدفت إلى بناء معالم حياة , ترقى بالإنسان في فكره و عقيدته و مذهبه , فتغمر هذه الحياة و يعلو شأنها , و تنفتح كوى الخير , و مغاليق و أسرار حالت دون سعادة الإنسان و رفاهه و ازدهاره , لتصل السياسة في حراكها إلى درجة البناء و التقدم حينها , و عمارة الأرض , و قيام حضارة إنسانية , ترنو إليها الأفراد و الجماعات , و من أجل ذلك برز كبار الساسة و عظماء المصلحين و قادة الفكر , و رادة المعرفة, من وراء القرون المتطاولة , ليخلد ذكرهم مع هذه الممارسة الهادفة و الرؤية النيرة, و الموقف الإنساني النبيل فكان الأعلام الذين حفظتهم ذاكرة الإنسانية , و سطرت في صحائفها أروع الأمثال , و أجل المواقف ليبرز (أرسططاليس و سقراط و صلاح الدين و محمود الزنكي و الظاهر بيبرس و أفلاطون , و يعظم الفتح مع اسكندر الأكبر, و تتلوها أساطين الفكر و جهابذة السياسة و القادة و العظماء من مختلف أصقاع الأرض ومواطنه وأزمانه.. ) فتشرق تلك الصفائح الخالدة من خلال شخصيات لامعة حديثة ومعاصرة تتلو أولئك الأفذاذ في سير حية ناصعة , وحياة حافلة عامرة , تزهو بها الإنسانية بأممها وشعوبها من أمثال : (غاندي و نهرو , و إقبال و تيتو و ديغول و الخطابي وعمر المختار ويوسف العظمة.. و عبد القادر الجزائري و عبيد الله النهري و الشيخ سعيد بيران و البارزاني الخالد ... ) أعلاما في أممهم و قادة في مجتمعاتهم, و روادا في المحيط الإنساني الأوسع و الأكثر بهاءا و إشراقا وخلودا ..
لفد أنجبت السياسة المحكمة , والرؤية السديدة , والحراك السليم والمبدئي هؤلاء الأعلام الذين تركوا بصماتهم في حياة شعوبهم, وتجاوزوا محيطهم الإقليمي إلى العالم الأرحب ... لنجد مقابل هؤلاء في الوجه الأشد كلوحة وبؤسا وقترا أولئك الطغاة و المردة و القتلة و الانتهازيين, ممن قادتهم الاحترافية وقادهم التسلط والإثم إلى شر وبيل , و رؤية قائمة , و صحائف ممزقة , و لطخت تاريخهم بكل أساليب المكر و الدجل و التضليل, فكان منهم : (قارون و هامان و فرعون و كان نيرون الذي أحرق روما و هولاكو و جنكيزخان ...و كان طغاة القرن العشرين الذين أبادوا و دمروا ليكون حراكهم السياسي قاتلا و شرا على شعوبهم و على البشرية ..) .. و الحراك السياسي يزهو و يسمو مع نبل القيم , و سماحة الفضيلة , و روعة الأخلاق , و جمال المبدأ.. ولكنه يسفل و يتضع ويتقزم مع الاحتراف و الهبوط و الانهيار إلى مهاوي الانتهازية ,و المكر و التضليل و تشويه الآخرين , كما يحلو للبعض أن يجد فيه فرصة للتسلق و الانطلاق بلا حياء و لا قيود , وهو ما نجد في الحراك السياسي في منطقة الشرق الأوسط و على مستوى الحركة الكوردية في سوريا, حيث عانينا ذلك مباشرة وبأنفسنا – خلال تجربة مريرة وقاسية وأليمة عقودا متطاولة - و ما وجدناه من التواء و ركوب لمتن الأنانية و الفردية المغرقة, و احتراف بشع يمس أخص خصائص الإنسان .. في مثله و قيمه و فضائله, ليضرب نفر من هؤلاء – دون أن نسمي فهم معروفون من جماهيرنا بوضوح مبهر - ليضربواعرض الحائط بكل ما يرفع قيمة العمل السياسي و يرقى به , و يجعل منه أداة ميدانية لخدمة الأهداف الوطنية و القومية الكبرى الخارجة من دائرة الحزبية الضيقة , و الرؤية الفردية المتضخمة و الاحتراف الارتزاقي , و ما يحيط بذلك من خداع سراب , يلمع فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا أتاه لم يجد شيئا, و لم يجد إلا المكر و الخديعة و التشهير و الأساليب الهابطة.. التي تحول دون بناء حراك سياسي يتسم بالجدية و بالمبدئية و الإيجابية, و الرؤية المتوازنة لبناء حالة من التواؤم و التكامل , و إنجاح مساعي الخيريين في رفع سوية العمل السياسي الكردي في سوريا و إقالته من عثارته, و رأب صدعه جديا, و إخراجه من قمم التشرذم و التشتت.. و غياب القرار المبدع و المنتج و المنبثق من الأهداف الكبرى, ليظل الحراك السياسي في محيطه الطبيعي و متنفسه, و علاقاته المثمرة والجادة والهادفة بعيدا عن أجواء القذف والتآمر و المكيدة , و منطق الالتفاف و التشويه, الذي يودي بمخططيه و الساعين لخلق حالات الاحتراف الهابطة إلى مصير من عبثوا بتاريخ شعوبهم, خدمة لأغراض قريبة و أهداف ذاتية خائرة .. فكان مصيرهم أبشع من أن يحسدوا عليه, و كان الاحتراف أكبر ضربة توجه إلى أعناقهم الملتوية ... ليبرز ما هو أعلى و أصلح و أكثر تهذيبا و رفعة و نبلا في خضم بناء حياة ذات أهداف رفيعة , و يبرز الفرق كبيرا بين الاحترافية الهزيلة و المبدئية الصارمة , دون أن تفقد قيمها الرفيعة في ممارسة تكتيكاتها .. التي تخدم استراتيجية العمل السياسي الجاد , وهو ما يمكن أن يقود إلى الأرقى و الأمثل و الأفضل .